أسرار الكون

نظريات خلق الكون


نبيل حاجي نائف -

   كان خلق الكون مفهوماً غامضاً ومهملاً لدى الفلكيين، والسبب فى ذلك هو القبول العام لفكرة أن الكون أزلي في القدم وموجود منذ زمن لا نهائي. وبفحص الكون افترض العلماء أنه كان مزيجاً من مادة والطاقة، ويظن أنهما لم يكونا ذويا 
بداية، كما أنه لا توجد لحظة خلق، تلك اللحظة التى أتى فيها الكون وكل شيء للوجود، وتضمنت أن المادة والطاقة كانتا الشيء الوحيد الموجود فى الكون، وأن الكون وجد منذ زمن اللانهائي وسوف يبقى إلى الأبد.

  وأهمية هذا الموضوع تكمن فى أن له أبعادا كثيرة، فهو الذي سوف تبنى عليه كافة معارفنا "وعقائدنا" عن هذا الكون، فالأساس الفيزيائي الموثق لطبيعة وخصائص الكون، هو الذي يسمح لنا معرفة خصائص الوجود وبالتالي معرفتنا أنفسنا وكل شيء فى هذا الوجود.

نظرية الانفجار الأعظم

يفترض الكثير من العلماء الآن أن الكون بشكله الحالى نشأ عن إنفجار هائل، إلا أنهم يختلفون حول السبب الذى أدى إليه، وما إذا كانت هناك قوة دافعة وراء حدوثه.
إن هذه النظرية تثير الحيرة في عقول العلماء من مختلف اختصاصات الفيزياء والرياضيات والكيمياء والهندسة وغيرها.

ولعله مما يثير العجب كثرة العلماء الذين يعتبرونها صحيحة ويبنون القوانين الكونية التى تعتمد عليها، ولكن هناك عدة آراء لعلماء تحاول التشكيك بها.
تستمد نظرية الانفجار الأعظم صحتها عن طريق 3 قضايا أساسية:
الأولى: تمدد الكون. أن المجرات تتباعد عن بعضها بسرعة أكبر كلما كانت أبعد عنا، وهذا بالاعتماد على "ظاهرة دوبلر" التى تقول بانخفاض التردد عندما يتحرك مصدره مبتعدا عنا.
الثانية: الخلفية الإشعاعية أو الحرارية التي أثبت وجودها منتشرة في الكون المنتشر حولنا.
الثالثة: كمية الهيدروجين والهليوم ونسبته فى الكون تؤيد هذه النظرية.

اكتشاف تمدد الكون

كانت الأعوام التى تلت 1920 هامة فى تطور علم الفلك الحديث. ففى عام 1922 كشف الفيزيائى الروسى ألكسندر فريدمان حسابات بين فيها أن تركيب الكون ليس ساكناً. حتى أن أصغر اندفاع فيه ربما كان كافياً ليسبب تمدد التركيب بأكمله أو لتقلصه وذلك طبقاً لنظرية أينشتاين فى النسبية.

لم تحظ التأملات النظرية لهذين العالمين فى تلك الفترة باهتمام يذكر، غير أن الأدلة التى نتجت عن الملاحظات العلمية فى عام 1929كان لها وقع الصاعقة فى دنيا العلم. ففى ذلك العام توصل الفلكى الأميركى الذى يعمل فى مرصد جبل ويلسون فى كاليفورنيا إلى واحد من أعظم الاكتشافات فى تاريخ علم الفلك.

ادوين هابل هو باختصار الشخص الذى غيّر رؤيتنا إلى الكون، ففى العام 1929 اثبت أن المجرات تبتعد عنا بسرعة متناسبة مع المسافة التى تفصل ما بينها. وتفسير ذلك بسيط مع انه ثوري. الكون يتوسع.

فقد أظهرت أرصاد هابل وفق هذا المبدأ أن المجرات تتحرك بعيداً عنا، وبعد فترة وجيزة توصل هابل إلى اكتشاف آخر مهم، وهو أن المجرات لم تكن تتباعد عن الأرض بل كانت تتباعد عن بعضها البعض أيضاً، والاستنتاج الوحيد لتلك الظاهرة هو أن كل شيء فى الكون يتحرك بعيداً عن كل شيء فيه، وبالتالى فالكون يتمدد، ومع تقدم العلم والتقنيات ظهرت صحة استنتاج هابل. فالمجرات تبتعد عنا والكون يتمدد، ومع نظرية النسبية العامة التى وضعها ألبرت اينشتاين فى العام 1915، أصبح من المسلم به أن جميع المجرات والكون برمته يتوسع.

إكتشاف الخلفية الأشعاعية

فى عام 1948 طور العالم جورج غاموف حسابات جورج لوميتر عدة مراحل للأمام وتوصل إلى فكرة جديدة تتعلق بالانفجار الكبير، مفادها أنه إذا كان الكون قد تشكل فجأة فإن الانفجار كان عظيماً ويفترض أن تكون هناك كمية قليلة محددة من الإشعاع تخلفت عن هذا الانفجار والأكثر من ذلك يجب أن يكون متجانساً عبر الكون كله.

خلال عقدين من الزمن كان هناك برهان رصدى قريب لحدس غاموف، ففى عام 1965 قام باحثان هما آرنوبنزياس وروبرت ويلسون بإجراء تجربة تتعلق بالاتصال اللاسلكى وبالصدفة عثر على نوع من الإشعاع لم يلاحظه أحد قبل ذلك وحتى الآن، وسمى ذلك بالإشعاع الخلفى الكوني، وهو لا يشبه أى شيء ويأتى من كل مكان من الكون وتلك صفة غريبة لا طبيعية، فهو لم يكن موجوداً فى مكان محدد.

وبدلاً من ذلك كان متوزعاً بالتساوى فى كل مكان، وعرف فيما بعد أن ذلك الإشعاع هو صدى الانفجار الكبير، والذى مازال يتردد منذ اللحظات الأولى لذلك الانفجار الكبير. وبحث غاموف عن تردد ذلك الإشعاع فوجد أنه قريب وله القيمة نفسها التى تنبأ بها العلماء، ومنح بنزياس وويلسون جائزة نوبل لاكتشافهما هذا.

   فى عام 1989 أرسل جورج سموت وفريق عمله فى ناسا تابعاً اصطناعياً للفضاء، وسموه مستكشف الإشعاع الخلفى الكونى "cobe" وكانت ثمانية دقائق كافية للتأكد من النتائج التى توصل إليها كل من بنزياس وويلسون، وتلك النتائج النهائية الحاسمة قررت وجود شيء ما له شكل كثيف وساخن بقى من الانفجار الذى أتى منه الكون إلى الوجود، وقد قرر العلماء أن ذلك التابع استطاع التقاط وأسر بقايا الانفجار الكبير بنجاح.
نسبة كمية الهيدروجين إلى كمية الهليوم.

وإلى جانب ذلك، فثمة دليل آخر مهم يتمثل فى كمية غازى الهيدروجين والهليوم فى الكون. فقد أشارت الأرصاد الى أن مزيج هذين العنصرين فى الكون أتى مطابقاً للحسابات النظرية لما يمكن أن يكون قد بقى منهما بعد الانفجار الكبير، مما أدى الى دق إسفين قى قلب نظرية الحالة الثابتة، لأنه إذا كان الكون موجوداً وخالداً ولم تكن له بداية فمعنى ذلك أن كل غاز الهيدروجين يجب أن يكون قد احترق وتحول إلى غاز الهليوم.
وبفضل جميع هذه الأدلة كسبت نظرية الانفجار الكبير القبول شبه الكامل من قبل الأوساط العلمية. وفى مقالة صدرت فى عام "1994" فى مجلة "الأميركية العلمية" ذكر أن نموذج الانفجار الكبير هو الوحيد القادر على تعليل تمدد الكون بانتظام، كما أنه يفسر النتائج المُشاهَدة.
أن الكون الذى يتوسع باستمرار تنقص كثافته شيئا فشيئا منذ بداية ولادته، ففى اللحظة التى ولد فيها الكون كان حجمه صغيراً وكثافته عالية جداً، وفى اللحظة التى ابتدأت فيها ولادة الكون ابتدأ التوسع وأخذت الكثافة تنقص شيئا فشيئا. والمراحل التى مر بها الكون منذ ولادته سنوردها موجزة "مع التذكير بأن ما يلى هو فى إطار نظرية الانفجار الأعظم والنظرية التضخمية التى تعتبر أن ولادة الكون هى اللحظة التى ولد فيها الزمن أيضا" وهذا يعنى أنه لا يصح أن نسأل عما قبل ولادة الزمن لأن ما قبل الزمن أو ما قبل الكون سؤال ليس له معنى من وجهة نظر هذه النظرية.

ونظرية التضخم أو الانفجار الأعظم تتنبأ بأن الكون كان فى البداية أكثر حرارة بكثير مما ترى نظرية البيغ بانغ الأساسية وأنه قد تعرض لفترة توسع كونى هائل فى اللحظات الأولى "ما بين 10 34- و 10 32- ثانية" فى بداية ولادته.

وتشير نظرية الانفجار الأعظم ( أو البيغ بانغ ) إلى أن الكون ابتدأ حياته بكثافة عالية جدا "كثافة المادة أكثر من 10 93 كغ/م3 فور ولادته"، ومعدل توسع مرتفع جدا 10 61 "نانومتر/سنة"/كم وهذا المعدل يقابل بلغة مفهومة 100 مليون مليار سنة ضوئية فى كل ثانية ولكل نانو متر من أبعاد الكون أو بشكل آخر تضخم الكون خلال هذه الفترة 10 150 مرة.
وهذا المعدل المرتفع جدا لو تتابع لأدى لانحلال الكون خلال الجزء الثاني من الثانية. ولكن هذا التوسع السريع جدا رافقه انخفاض درجة الحرارة والكتلة الحجمية مما أتاح للكثافة الكونية أن تنخفض إلى معدل أصبحت معه ولادة الكون بالشكل الذي نراه اليوم ممكنة. هذا الانخفاض هو الذى أدى إلى هذا التوسع الكوني اللا معقول، بحيث أصبح هناك في الكون تناسب بين التوسع والكثافة لضبط هذا التوسع والتخفيف من حدته:
تنخفض الكتلة الحجمية بفعل التوسع الكوني وهذا الانخفاض في الكتلة الحجمية يجعل معدل التوسع أكثر انخفاضا.

وتشير النظرية إلى أنه في فترة التضخم من 3310- ثا إلى 3210- ثا لم يكن فى الكون سوى نوع واحد من الجسيمات يخضع لقانون فيزيائى واحد تتوحد من خلاله القوى الكونية الأربعة "الجاذبية، القوية، الضعيفة والإلكتروكهرطيسية".
وفى تلك الفترة التى كانت فيها القوى الكونية متحدة كانت الشروط الفيزيائية غريبة جدا عما نعرفه نحن. إذ تدل الحسابات "كما دلت بأن للفوتونات كتلة كبيرة فى الأزمنة الأولى لولادة الكون" بان هناك كتلة للفراغ بل وهى كبيرة جدا 7310 كغ/م3 ثم تناقصت إلى أن أصبحت حاليا معدومة. ففى اللحظة 3310- ثا بعد البيغ بانغ وصل الأمر بالتوسع الكونى إلى الحد الذى جعل فيه الكتلة الحجمية للفراغ تطغى على المادة.

وهنا حصلت ظاهرة غريبة "أيضا": فمع أن الكون يتوسع فإن الكتلة الحجمية الكونية لا تنقص. حيث تدل الحسابات على أنه مع توسع الفراغ ذو الكتلة إلا أن كتلته الحجمية لا تنقص عن 7310- كغ/م3. أي أن الذي يحصل فى النتيجة هو ازدياد الفراغ لا أكثر.
ومع انتهاء فترة التضخم أخذت القوى الكونية تتمايز إلى القوى الأربعة التى نعرفها اليوم ويتتابع التوسع الكوني كما هو وفق النظرية التقليدية. وسيبقى التوسع الكوني الحالى على ما هو طالما بقيت كتلة الفراغ مهملة.
وقد فسرت النظرية التضخمية العديد من الأمور التى كانت عالقة أو غير مفهومة فى النظرية بنسختها التقليدية. فمثلا بالنسبة لنقاط ضعف النظرية الأساسية الثلاث، تجيب النظرية التضخمية:

1ـ بأن المادة كانت كلها محتواة فى حيز صغير بحيث أمكن لجميع الجزيئات تبادل الطاقة فى اللحظة 3410- ثانية.

2ـ التضخم الكونى يسطح الكون تماما كما يفعل التوسع بسطح كرة.

3ـ بالنسبة للمادة المضادة يمكن أن نجد الحل فى الفيزياء الجزيئية التى تحاول شرح الأمر من خلال النظر فى مسألة توحد القوى الكونية.

وهذه هي باختصار نظرية البيغ بانغ الأساسية والنظرية التضخمية اللتان تتكاملان لتفسير نشوء الكون وتطوره إلى ما هو عليه اليوم.

تساؤلات حول نظرية الانفجار الأعظم

تنطوى نظرية الانفجار الأعظم على تناقضات كثيرة يجرى تبريرها بطرق غير دقيقة، وأهم هذه التناقضات هو عمر الكون وعمر المجرات التى يظهر أحياناً أنها أكبر منه.
إن أوائل المجرات تشكلت عندما كان عمر الكون حولى 10 بالمئة من عمره الآن أى عندما كان عمر الكون حوالى مليار ونصف سنة، وكان موجودا فى هذه النجوم العناصر الثقيلة وهذه يلزمها زمن أكثر من مليار ونصف سنة لأنها تتكون بعد سلسلة من تكون وولادة النجوم وموتها، وكذلك الكوزارات تحتاج لأكثر من هذا الزمن كي تتكون.

فالمجرات القصية التى فيها كوزارات والتى تبعد عنا حولى 12 مليار سنة، هى مجرات نراها عندما كان عمر الكون بين 2 - 1.5 مليار سنة. وتلك المجرات القصية والتى تبعد عنا أكثر من 12 مليار سنة، ونحن نراها عندما كانت قبل 12 مليار سنة، كان يلزمها 12 مليار سنة كى تبعد عنا هذه المسافة إذا كانت تسير بسرعة الضوء أى هى موجودة قبل 12 + 12 مليار سنة.
ونظرية الانفجار الأعظم تقول بتوسع المكان كى تتحاشى سير المجرات بسرعة أكبر من سرعة الضوء، فهى تقول أن المجرات تبتعد عن بعضها بسرعة كبيرة ويضاف لهذه السرعة السرعة الناتجة عن توسع المكان، وكما نعلم فان تجاوز سرعة الضوء مستحيل، وهذا من أسس قوانين الفيزياء.

لقد اعتمدت نظرية الانفجار الأعظم الحجم الأصغرى للكون والطاقة الأعظمية كبداية لوجود الكون. وهذا يناقض كافة أسس قوانين الفيزياء المعتمدة التى تعتمد كبداية العكس الحجم الأعظمى والانكماش وتركيز الطاقة فى حيز متناقص، وعندما يصل تركيز الطاقة فى الحيز المكانى إلى مقادير عالية جداً جداً يحدث الانفجار والتحول إلى الانتشار.
إن بناء نظرية الانفجار الأعظم تم انطلاقاً بالعودة إلى الوراء عن طريق الرجوع فى الزمن. وتوجد فيها قفزات غير مبررة بشكل دقيق وخيالية، فالمرصود هو فقط تباعد المجرات عن بعضها، وليس تباعد الغازات أو السحابات أو المجموعات الشمسية. وهذا لوحده لا يكفى ليثبت أننا إذا عدنا فى الزمن سوف نعود إلى نقطة واحدة تضم كافة مكونات الكون.
ونظرية الانفجار الأعظم تعتمد وجود درجات حرارة متناهية فى الكبر، وهذه غير مثبت إمكانية وجودها بشكل دقيق.
لقد تم حديثاً اكتشاف فراغ هائل الأبعاد، وهذا يصعب تفسير وجوده بناء على نظرية الانفجار الأعظم.

كما ان تصادم المجرات يصعب تفسيره بشكل دقيق حسب هذه النظرية، فكيف يحدث تصادم بين مجرتين إذا كانت كلتاهما ناتجتان عن انفجار واحد "حيث يجب ان تبتعدان عن بعضهما البعض".
وهناك كشوف حديثة تهز من أركان هذه النظرية، وتكشف قصور فيها عن مجرة كشفت حديثا. فحسب المعادلات التى تخص هذه النظرية يجب أن يكون عمر هذه المجرة حسب المسافة عن نقطة الانفجار العظيم 700 مليون سنة، ولكن الحقيقة أن هذه المجرة عمرها 13 مليار سنة، مع أن النظرية تقول أن عمر الكون 14 مليار سنة، وهو ما يعنى انه يمكن أن يوجد خلل فى هذه النظرية.

  منذ عشرين سنة، قدر معظم علماء الفلك عمر الكون حوالي أربع عشر مليار سنة، وافترضوا أن المجرات تشكلت خلال المليارات الأولى من وجوده.
واليوم، تطرح المقتضيات المطلوبة من أجل رصد المجرات المتنامية البعد مشكلات حقيقية أمام منظري الكون، ذلك أن الاكتشاف الياباني ليس معزولاً، فقد اكتشف علماء الفلك الأوربيون، الذين يستخدمون المقراب الشهير "فيرى لارج" المنصوب في التشيلي مجرات مشابهة لمجرتنا "الدرب اللبنية"، لكنها تقع على بعد 11,7 مليار سنة ضوئية عن الأرض! المشكلة هى أن أحداً لا يفهم اليوم جيداً كيف تسنى لأجرام يبلغ قطرها نحو 100 ألف سنة ضوئية، وتتألف من مئات مليارات النجوم، أن تتراكم "تتجمع" في غضون مليارى سنة.

وهناك بعض المجرات التى لا تخضع لقانون هابل. فأقرب مجرة كبيرة إلينا، أندروميدا، تتحرك فعلياً نحونا ولا تبتعد عنا. والسبب فى ظهور هذه الإستثناءات هو أن قانون هابل يسرى فقط على السلوك الوسطى للمجرات. وقد يكون لبعض المجرات حركات محلية متواضعة، كأن تدور بتأثير الثقالة حول بعضها، وهذه حال مجرة درب التبانة وأندروميدا. وكذلك ثمة مجرات بعيدة سرعاتها المحلية صغيرة.
عندما نطبق قانون دوبلر المعهود على الأجرام التى تقارب سرعاتها سرعة الضوء، نجد أن الانزياح نحو الأحمر يقارب اللانهاية. فموجات هذا الضوء تصبح أطول من أن تُلاحظ.
ولو صح هذا على المجرات، لكان يعنى أن أبعد الأجرام المرئية تتقهقر بسرعة أكبر بكثير من سرعة الضوء. ولكن قانون الإنزياح الكوسمولوجى نحو الأحمر يؤدى إلى غير هذه النتيجة. ففى النموذج الكوسمولوجى القياسى الحالي، نجد أن المجرات التى يصل إنزياح موجاتها نحو الأحمر إلى نحو 1.5 - أى التى موجاتها أطول بـ150 فى المئة مما قيست به فى المختبر - تتقهقر بسرعة الضوء.

وقد رصد الفلكيون نحو 1000 مجرة إنزياح موجاتها نحو الأحمر أكثر من 1.5. وهذا يعنى أنهم شاهدوا 1000 جرم تقريباً كل واحد منها يتجاوز فى تقهقره سرعة الضوء.
وهذا يكافىء قولنا إننا نحن نتقهقر عن هذه المجرات بسرعة تفوق سرعة الضوء. "أى لو كان هناك أحد على تلك المجرات يراقب الأرض، فانه سيرانا نتحرك أسرع من الضوء، الأمر الذى يجعلنا مجرد ضوء او شيئا مماثلا له، وهذا غير صحيح، ولكن هات من يخبره بذلك، إذا كان يؤمن بالنظرية نفسها"، بل إن إشعاع الخلفية الكونية من الموجات الميكروية تجاوز ذلك وبلغ إنزياحه نحو الأحمر 1000 تقريباً. وعندما بثت البلازما الحارة هذا الإشعاع الذى نرصده الآن فى بداية الكون، كان يتقهقر عن موضعنا بسرعة تقارب 50 مرة سرعة الضوء.

شيء آخر يتعلق بهذه النظرية العلمية هو قصورها حتى الآن عن الوصول بالفهم إلى ما حصل فى اللحظة صفر "أو الزمن صفر". إذ ما يمكن الوصول إليه حتى الآن هو فى حدود ما تصل إليه الفيزياء الحالية من فهم أو ما يعرف بحدود بلانك: ذلك أن العلم غير قادر –اليوم- على فهم ما يجرى عندما تكون الأبعاد أصغر من حدود بلانك "وهى 3210 K للحرارة و 10 35- متر للمسافة و 10 -43 ثانية للزمن" وقادر على أن يفهم ما هو أكبر من هذه الحدود "ولكن لنكن متفائلين، فكل ما تم فى هذا الإطار لا يتعدى عمره 70 سنة فقط".

لقد عارض نظرية الانفجار الكبير الفلكى فريد هويل. ففى منتصف القرن العشرين أتى هذا الفلكى بنموذج جديد ودعاه بالحالة الثابتة، وكان امتداداً لفكرة المتضمن أن الكون يتمدد، فافترض هويل وفق هذا النموذج أن الكون كان لا متناه في البعد والزمن، وأثناء التمدد تتولد فيه مادة جديدة باستمرار بكمية تجعل الكون فى حالة ثابتة. وهذه النظرية كانت على خلاف كلى مع نظرية الانفجار الكبير، والتي تدافع عن أن للكون بداية.
والذين دعموا نظرية هويل في ثبات الحالة ظلوا يعارضون بصلابة الانفجار الكبير لسنوات عديدة.

نظريات أخرى لنشوء الكون

يوجد عدد من النظريات (أو نماذج أو سيناريوهات) الأخرى طورها علماء قبلوا بنظرية الانفجار الكبير، لكنهم حاولوا إبعادها من فكرة أن للكون بداية، وأحد تلك النماذج هو "الكون ذو النموذج الكوانتي"، وهو محاولة أخرى لتنظيف الانفجار الكبير من متطلبات التخلقية وتخليصها من حقيقة الخلق، وقد بنى الداعمون لهذا النموذج محاولتهم تلك على المشاهدات الكوانتية للفيزياء ما دون الذرية. في الفيزياء الكوانتية لا توجد المادة إذا لم تكن موجودة قبلاً، وما يحدث هو أن طاقة مختفية تصبح فجأة مادة وكماً.

نموذج الكون الهزاز

طُور هذا النموذج من قبل الفلكيين الذين لم تعجبهم فكرة أن الانفجار الكبير كانت بداية الكون، ويقضى ذلك النموذج بأن التمدد الحالى للكون سوف ينعكس أخيراً عند نقطة معينة ويبدأ بالانكماش والتقلص.
وهذا الانكماش سوف يسبب انهيار واندماجاً لكل شيء فى نقطة واحدة، ومن ثم تعود تلك النقطة لتنفجر ثانية مستهلة جولة جديدة من التمدد، وكما يقولون فهذه العلمية تتكرر بشكل لا محدود مع الزمن، ويفترض هذا النموذج أن الكون عانى لغاية الآن هذا التحول عدداً لا نهائياَ من المرات، وأن تلك العملية سوف تستمر إلى الأبد، وبكلمة أخرى سيبقى الكون سرمدياً خالداً رغم أنه يتمدد وينهار خلال فواصل زمنية مختلفة مع حدوث انفجار هائل يختم كل دورة، والكون الذى نحن فيه هو واحد فقط من هذه الأكوان اللانهائية والتى تمر عبر الدورة نفسها.

فى سباق علماء الفيزياء الفلكية لمعرفة أصول الكون، اليابانيون هم اليوم الأكثر تقدماً. فقد تمكنوا، بمقرابهم العملاق "سوبارو" من اكتشاف أبعد مجرة معروفة الآن "إس دى إف 132418" على مسافة 12,8 مليار سنة ضوئية من الأرض.
فى الواقع، حسب نظرية الانفجار الأعظم، تبتعد الأجرام عنا بسرعة قريبة من سرعة الضوء، محمولةً بتمدد الكون. ومن منطلق هذا التمدد الإجمالى للزمكان، فإن الضوء الذى تطلقه ينزاح بمفعول دوبلر باتجاه الأطوال الموجية الأكبر.
والنتيجة هى أن فوتونات الضوء فوق البنفسجي، التى انبعثت منذ 12,8 مليار سنة، تنزاح اليوم فى الأشعة تحت الحمراء. وفى الصورة التى التقطها "سوبارو"، هناك أكثر من 50 ألف مجرة، من بينها 60 مجرة اكتشفتها برمجيات استكشاف تلقائي، وهي تطلق أشعة منزاحة جداً فى الأحمر.

ومنذ عشر سنوات، كان الأميركيون هم من حطم أرقام البعد القياسية. من المؤكد أن الأمر ليس مجرد مأثرة تكنولوجية بالنسبة إليهم، فالرصد بعيداً فى الفضاء بالنسبة إلى عالم الفلك يعنى العودة فى الزمن. ولما كانت صور الكون تصلنا بسرعة الضوء
"300 ألف كم/ثا"، فإن الجرم الكوني الذى يقع على مسافة مليار سنة ضوئية من الأرض يشاهد كما لو كان موجوداً قبل مليار سنة ماضية، إلا أن المجرة التى اكتشفها الفريق اليابانى موجودة على بعد 12,8 مليار سنة ضوئية، غير أن عمر الكون، وفقاً لجميع قياسات القمر الصناعى "دبليو إم إى بي" هو 13,7 مليار سنة. بعبارة أخرى، إذن هذا الجرم رُصد كما كان عقب الانفجار الأعظم بـ900 مليون سنة فقط.
وهكذا، فإن ما يجرى اكتشافه إبان فجر الكون مثير للحيرة يوماً بعد يوم. وفى الواقع، فإن الرهان الرئيسى لقياس عمر الكون يقوم على فهم كيف بُنى الكون عقب الانفجار الأعظم. ولكن، كلما أعطى علماء الفلك الكونَ عمراً أصغر، وتلك هي الحال منذ عشرين سنة، تضاءل زمن التشكل المعطى للنجوم والمجرات!

هناك 3 تعليقات


EmoticonEmoticon