موقع Youtube أرشيف إنساني بصري

  

   لم تجد مجلة «تايم» الأميركية الشهيرة كلمات لوصف موقع «يوتيوب» You Tube على الإنترنت سوى القول أنه: «أهم اكتشاف في عالم الإنترنت... وقوة عابرة للحدود ولوسائل الإعلام... والموقع الأكثر تأثيراً في الثقافة الشعبية، وخصوصاً في الشباب، في كل مكان تصل اليه ثورة المعلومات على الكوكب». وقبل أشهر قليلة، أبرم محرك البحث «غوغل» Google، وهو الأكثر استخداماً على الإنترنت، صفقة لشراء ذلك الموقع مقابل 1.65 بليون دولار. وبدت تلك الصفقة مدهشة، بالنظر الى «صغر سن» موقع «يوتيوب»، الذي هو مساحة مفتوحة لتبادل أشرطة الفيديو التي يصنعها الجمهور بوسائل مختلفة، وخصوصاً أشرطة الخليوي. فقد تأسّس عام 2005 كشركة خاصة، سرعان ما اصبحت قادرة على تغيير موازين قوى الإعلام العام.




   ورَفَد الموقع الإعلامي الالكتروني بسيول من أفلام الفيديو، يفوق عددها راهناً 70 مليون شريط. وتساهم تلك الأفلام في إغناء صفحات المدونين الالكترونيين (البلوغرز) ومنتديات الحوار على الشبكة الالكترونية، من خلال تقديم عروض حيّة وأحداث يومية، إضافة إلى إعلانات الترويج ومواد الدعاية وبرامج الموسيقى ومواد الترفيه وغيرها مما يُبث عبر الشبكة الدولية للمعلومات مجاناً، ومن دون حواجز جغرافية أو سياسية أو عقائدية. وخلال أقل من سنتين بعد انطلاقته، بات «يوتيوب» من أكثر المواقع الالكترونية إثارة للجدال، لا سيما في الاوساط السياسية والحكومية التي أقدم بعضها، كحال تركيا وتايلاند والصين، على منع الجمهور من الوصول إليه. وعمدت بعض السلطات الرسمية، وعلى غرارها مجموعة من شركات الموسيقى والمعلوماتية، إلى إقامة دعاوى قضائية ضد ذلك الموقع، لأسباب تراوحت بين الاعتداء على حقوق المؤلفين والناشرين وبين انتهاك الحرمات الاخلاقية وتهديد سلامة الأمن العسكري والوطني!


تناقضات البنتاغون

  في خطوة اعتبرت أولى من نوعها، أعلنت وزارة الدفاع الأميركية في تاريخ 18 ايار (مايو) 2007، عن اتخاذ اجراءات صارمة تحظر على جنودها في افغانستان والعراق، والذين يستخدمون الشبكات العسكرية، من تصفح 13 موقعاً الكترونيا،ً بينها «يوتيوب».

وبرّر البنتاغون تلك الخطوة بدواع تتعلق بالحفاظ على الأمن القومي وحماية المعلومات وتقليل الضغط على شبكات وزارة الدفاع. وصرح الناطق باسم البنتاغون الليوتنانت جيفري غوردن أن هذه الاجراءات تهدف أساساً إلى تجنب إثقال الشبكة العسكرية للجيش الأميركي بمواد كبيرة الحجم، مثل تلك التي تكون عليها الصور وأفلام الفيديو، التي تتوافر من طريق الإنترنت. كما بيّن أن هذا الحظر يحول دون إصابة أنظمة المعلوماتية الأميركية بالفيروسات المُدمّرة، ويؤمن بالتالي سرعة نظام التشغيل وسلامته. كما أعلن أن الحظر يستثني الجنود الذين يتصلون بالإنترنت مباشرة، من دون المرور بالشبكة العسكرية للبنتاغون.


 عقلية البروباغندا تواجه أشرطة الإنترنت

 في تعامله القلق مع موقع «يوتيوب»، لم تقف وزارة الدفاع الاميركية عند التقييد والمنع، بل تجاوز ذلك إلى نوع من التشجيع «الانتقائي» لاستخدام ذلك الموقع عينه! وفكّرت في استغلال شهرة الموقع المتسارعة، لنشر مواد بصرية-مسموعة تتلاءم مع الصورة التي تريد رسمها للجيش الأميركي، وخصوصاً لقواته في العراق وافغانستان.

ففي تقرير بثته محطة «آيه بي سي» الأميركية، في وقت قريب من الإعلان عن الحظر المُشار اليه أعلاه، جاء: «إن الجيش الأميركي نقل معركة العراق إلى موقع «يوتيوب» للفت الانتباه إلى الجوانب الايجابية التي تتحقق على يد الأميركيين وحلفائهم في تلك البلاد». ويتطابق محتوى ذلك التقرير مع تصريحات الكولونيل كريستوفر جارفر، الناطق الرسمي باسم القوات الأميركية في العراق وجاء فيها أن اللجوء إلى ذلك الموقع: «بات ضرورة قصوى... إن المطلوب هو استخدام «يوتيوب» لمواجهة الجماعات الاسلامية المتشددة التي تدأب على استخدام الإنترنت، وتبث أفلاماً لرهائن ولهجمات على القوات الأميركية... إن ذلك (نشر أفلام البنتاغون على «يوتيوب») يُساهم أيضاً في تخفيف موجة التشكيك في الدور الأميركي في العراق». وأضاف: «إن موقع «يوتيوب» قفز خلال الشهرين الأخيرين إلى المرتبة 16 بين القنوات الأكثر جماهيرية على «الويب»، إذ يُشاهده يومياً ملايين الأشخاص».


ويبدو واضحاً ان دخول الجيش الأميركي إلى الفضاء الافتراضي يهدف الى ترويج بروباغندا مغايرة لما يجري على أرض الواقع في العراق، ولإخراج الرأي العام الأميركي من صور العمليات التي تستهدف جنوده وآلياته، من خلال بث مشاهد انسانية يلتقطها المصورون العسكريون ويعلقون عليها ثم يرسلونها عبر الإنترنت. وتتضمن تلك المواد مشاهد لجنود أميركيين يوزعون الهدايا وكرات القدم للأطفال، ويقدمون الخدمات الطبية للمرضى من المدنيين وغيرهم. ومن الملاحظ أن القادة الأميركيين يشجعون جنودهم على المساهمة في مثل هذه اللقطات ويتركون للجمهور حرية التعليق عليها. وفي رأي غوردن نفسه، فإن مجمل ردود الفعل على ما يُرسل من صور وأشرطة فيديو: «إيجابي بمعدل 80 إلى 90 في المئة». واستثنى من ذلك التقويم بعض الاصوات المُعترضة التي وصفها بأنها: «تندرج في خانة الدعاية ضمن معركة كسب القلوب والعقول».

 مدونات مخالفة تتغذى من «يوتيوب»

 يصعب النقاش في موقع «يوتيوب» من دون الحديث عن علاقته بالمُدوّنات الالكترونية («بلوغز»)، التي تتغذى من أشرطة «يوتيوب»، كما تبث اليها مواد مرئية-مسموعة أيضاً، في علاقة تفاعلية لافتة. وهكذا، انعكس موقف البنتاغون «المتناقض» من «يوتيوب» على المدوّنات الرقمية للجنود الاميركيين في العراق. فخلافاً لما يروّجه الإعلام العسكري الأميركي، اعترف أحد الجنود السابقين في العراق (كولبي بازل، من مشاهير «البلوغرز») على صفحة من مُدوّنته بأن: «الطريقة التي نتصدى بها لنفوذ الجماعات المتشددة كان بطيئاً، واكتسابنا ثقة العراقيين كان هزيلاً إلى حد كبير».

ولكثرة الطلب على ما كتبه في مُدوّنته، جمع بازل ما كتبه عن العراق في كتاب تُرجم إلى 7 لغات عالمية، وصدر أخيراً تحت عنوان «الحرب التي خضتها لقتل الوقت في العراق». وتضمن الكتاب يومياته عن مجريات الحرب في العراق وفظاعتها، وكذلك الخوف المقيم في نفوس الجنود الأميركيين، والعنف المفرط في التعامل مع المدنيين المناهضين للاحتلال وغيرها. وفي مكان آخر من ذلك الكتاب، ورد ما يلي: «تخرج في مهمة بحث وتعود وتجلس امام الكومبيوتر وتكتب ليس للآخرين وحسب، وانما لنفسك ايضاً... ربما لقتل الوقت أيضاً». وجاء في مدوّنة لجندي آخر يدعى بيل روجيو ورد: «انفجار سيارة في العراق... مقتل 30 شخصاً وجرح 10... مقتل جنديين أميركيين... فرار احد الجنود مذعوراً وهو يصيح «حرب قذرة ارجو ان تنتهي بسرعة»... لقد صوّر بعضنا هذه الأمور ونشروها على «يوتيوب»، فمن سيراها»؟

لعل الطريقة التي تُحفظ فيها المواد الرقمية بأنواعها، تُعطي ذلك الموقع الكثير من القوة. فمن المعلوم أن الملفات الرقمية تُحفظ في أرشيفات يسهل الرجوع اليها دوماً.

وعندما تتراكم مواد بصرية في موقع بعينه، ويكون مفتوحاً أمام الجمهور، يشبه ذلك عرضاً متواصلاً للأحداث لتلك الأفلام. وأضاف هذا الأمر الكثير من القوة الى «يوتيوب». فمثلاً، وفي سياق علاقة الموقع بالحرب على العراق، لا تزال الكثير من المشاهد المُدوية الشهرة محفوظة في ذلك الموقع. وهكذا، عادت مشاهد إلى الأعين مرة اخرى؛ وربما الأصح انها لم تختف، على رغم أن الأولى كانت الأشهر: إنها مشاهد التعذيب في سجن «أبو غريب». وتقيم تلك المشاهد راهناً في موقع «يوتيوب»، بعدما التقطتها كاميرا في خليوي لأحد الجنود الأميركيين. وحين نُشرت للمرة الأولى، هزّت تلك المشاهد العالم. طرحت مسألة «المبرر الاخلاقي» للحرب.

وعلى رغم تكرارها، ما زالت قوتها تضرب أعين من يستعيدها في موقع «يوتيوب». وتظهر تلك الصور، الآن كما سابقاً، وكأنها انتهاك بكر. صفاقة من نفاق عام جعل الرأي العام، غرباً وشرقاً، يعامل تلك الصور وكأنها انتهاك لحرمة لم يقترب منها احد. تلك كانت كذبة اخرى. ففي ذروة عصر الإعلام المندمج بالاتصالات، الذي يرسمه التلفزيون الفضائي المندمج بالبث الالكتروني بالزمن الحي المباشر Real Time Communications، ظلت الذاكرة نائمة. لكنها باتت في يقظة رقمية متأهبة في أرشيف «يوتيوب». وللمقارنة، يمكن التذكير بأن شاشات التلفزة العالمية لم تنبش ارشيفاتها، حين انفجرت فضيحة «ابو غريب»، للحصول على صور قرية «مايا لاي» الفيتنامية مثلاً، حيث تبدت اخلاق الجيش الديموقراطي العقلاني، في صور لا تنسى. لم تكن صور «ابوغريب» انتهاكاً بكراً للأعين، ولا للبث المتلفز للحروب في زمن الحداثة، لكن النفاق كان عميماً، وباتساع البث المتطور الذي يلف الكرة الارضية. وكذلك تؤكد الصور ان الامر يتعلق بثقافة الجنود الذين قطعوا اكثر من نصف الكرة الارضية، ليغزوا بلداً عالمثالثياً، ويقدموا له صور من الحرية والحداثة الغربية والديموقراطية وغيرها.


 «بلوغرز» تتجدد بمواد «ميلتي ميديا»

    يبدو أن الصحافة، وخصوصاً العربية، ستلاقي صعوبات متواصلة في منافستها مستقبلاً مع صفحات «بلوغرز» التي باتت أكثر غنى، بفضل تفاعلها إيجاباً مع موقع «يوتيوب».

وباتت المُدوّنات الالكترونية تضج بمواد اعلامية متنوعة متعددة الوسائط «ميلتي ميديا»، اضافة إلى ما تحتويه من مواد. ترفع هذه الامور من مستوى المنافسة مع الصحافة الورقية المكتوبة، وتحتم عليها التفكير ملياً بالاثار المتعددة إعلامياً للصفحات «بلوغرز». وفي مثال عربي لافت، أطلق «يوتيوب» أفلام الخليوي التي صورت مشاهد التعذيب في بعض مراكز الشرطة المصرية. وسرعان ما تلقفتها صفحات المُدوّنين الالكترونيين المصريين، الذين زادوا من انتشار تلك الأفلام أيضاً. وأدى الأمر إلى ضجة إعلامية، ما زالت أصداؤها تتوالى.

وللتذكير، يطلق تعبير «بلوغرز» على المذكرات الإلكترونية التي يصنعها الأفراد على الإنترنت، ويعبرون فيها عن آرائهم الفردية في ما يجري حولهم، تاركين مجالاً لمن يريد التعليق والرد.

وقد باتت بسرعة مصدراً مفضلاً للاخبار التي لا تخضع لقواعد عمل المؤسسات الإعلامية (تلفزيون وصحافة وراديو) المختلفة.

وحدث تطور غير متوقع ادى الى انفجار تلك الظاهرة عالمياً. ففي خضم الحرب الأميركية على العراق، لجأ شاب عراقي إلى نشر يومياته ومشاهداته على صفحة شخصية في الإنترنت. وسرعان ما حازت صفحة الـ «بلوغر» العراقي «سلام ريبورت» شهرة عالمية.

   مع توسع ظاهرة «بلوغرز»، التي يمارسها آلاف من الشباب العرب، تبدو الإنترنت وكأنها على وشك تحقيق احدى اهم وعودها: رفع صوت الافراد فوق صوت المؤسسات. الارجح ان هذا «الحلم» لم يتحقق بعد. ويحتاج الامر إلى نقاش متشعب ومعمق لرصد هذا الامر. يوجد في العالم العربي الآلاف من الـ «بلوغرز». يعملون في ظل صمت عميق. فمن غير المبالغ فيه القول ان ظاهرة «بلوغرز» لم تدرس بتعمق كاف على مستوى الإعلام العربي، بدءاً من الصحافة المكتوبة وانتهاء بالتلفزة. ويعطي الامر مثالاً آخر عن مدى تلكؤ الظواهر المستقرة في التفاعل مع نفسها! وراهناً، مع الصعود المتواصل لموقع «يوتيوب»، بات الأمر أشد صعوبة أمام الصحافة التقليدية. فهل يقرع اندماج «يوتيوب» وأشرطته المثيرة مع ظاهرة «بلوغرز الجرس امام الصحافة الورقية للتفكير في هويتها ودورها ومكانها في عالم يتغيّر فيه مفهوم الإعلام العام بصورة جذرية؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق