التعلم الذاتي للأطفال: الشغف والمعرفة خارج حدود المدرسة
غالبًا ما يُنظر إلى التعلم الذاتي على أنه ميزة إضافية يتمتع بها المتفوقون من الأطفال؛ أولئك الذين لا يكتفون بما يُقدَّم لهم داخل الصفوف، بل يندفعون إلى المعرفة بشغف حقيقي ورغبة أصيلة في التعلم. هؤلاء الصغار يظهرون مبكرًا تفوقًا ملحوظًا على أقرانهم، لا فقط في تحصيل المعلومات، بل في امتلاك مهارات زائدة تتعلق بالقراءة والكتابة والبحث والاستكشاف. فبينما يكتفي بعض الأطفال بإنجاز الواجبات المفروضة، نجد أن المتعلمين ذاتيًا يبحثون، يقرأون، يدوّنون، ويعيدون إنتاج المعرفة بطريقتهم الخاصة. وهذا التفوق لا ينبع من ضغط خارجي، بل من دافع داخلي عميق يجعل من التعلم رحلة ممتعة لا مجرد التزام مدرسي.
في زمن تزداد فيه وتيرة التغيير المعرفي والتكنولوجي، لم يعد التعلم يقتصر على ما يُلقّن في حجرات الدراسة، بل أصبح مطلبًا يتجاوز الجدران والسبورات، ويتغلغل في تفاصيل الحياة اليومية للطفل. ومن هنا تبرز أهمية التعلم الذاتي، خاصة في المراحل الأولى من النمو العقلي والوجداني للطفل، باعتباره محركًا داخليًا يدفعه إلى الاكتشاف والمعرفة بحبّ، لا بواجب مفروض.
التعلم الذاتي: رغبة لا واجب
في الكثير من البيئات التعليمية التقليدية، يُنظر إلى التعلم على أنه واجب مفروض: واجبات مدرسية يجب إنجازها، اختبارات ينبغي التحضير لها، تعليمات مدرسية وأسرية يجب اتباعها. لكن هذه الطريقة، وإن كانت تنظّم العملية التعليمية، فإنها تفتقد للعنصر الأهم في التعلم: الرغبة الذاتية.
حين يتحول التعلم إلى مهمة ثقيلة، يصبح الطفل أقل انخراطًا، وتغيب عنه الدهشة الطبيعية التي يفترض أن تصاحب كل عملية تعلم. أما عندما ينبع التعلم من رغبة داخلية وشغف فطري، فإن الطفل لا يكتفي بأداء الواجب، بل يسعى لاستكشاف ما هو أبعد، ويسأل ويبحث ويعيد النظر فيما تعلّمه.
الطفل وصناعة عالمه التعليمي الخاص
من أبرز مظاهر التعلم الذاتي عند الأطفال، خاصة في بدايات التعلم، هو قدرتهم على تشكيل عالمهم المعرفي الخاص. هذا العالم ليس بالضرورة غرفة صفية، بل مساحة شخصية صغيرة — ركن في البيت، أو طاولة خاصة، أو حتى خزانة تضم دفاترهم وكتبهم وأقلامهم المفضلة.
هذا "الركن التعليمي" يصبح مع الوقت فضاءً محفّزًا ومُلهِمًا، يشبه "المختبر الصغير" الذي يصنع فيه الطفل تجاربه المعرفية الأولى. فيه يرتّب أدواته، يختار قصصه، يضع ألعابه التعليمية، يزيّن المكان برسوماته أو ملصقاته. ومن خلال هذا الفضاء، يبدأ الطفل في الربط بين التعلم والمتعة، وبين المعرفة واللعب، وبين الاكتشاف والراحة النفسية.
التعلم الذاتي يصنع شغف الاكتشاف
الأطفال الذين يجدون في التعلم الذاتي طريقًا للمتعة، تتشكل لديهم مع الوقت نزعة طبيعية للاكتشاف. لا يكتفون بما تقدمه المدرسة، بل يسعون لمعرفة المزيد: يطرحون الأسئلة، يشاهدون الفيديوهات التعليمية، يقرأون خارج المنهج، ويبدؤون في بناء مشاريعهم الصغيرة. هذا الهوس الجميل بالاكتشاف هو جوهر التعلم الحقيقي، لأنه ينبني على دافع داخلي غير مرتبط بالخوف من العقوبة أو الرغبة في المكافأة.
بين التعليم بالإكراه والتعليم بالحُب
عندما يُفرض التعليم بالقوة، أو عندما يصبح مرهونًا فقط بمراقبة الأولياء أو تعليمات المدرسة، يشعر الطفل بثقل العملية التعليمية، فتقل رغبته، وتضعف دافعيته، ويتحول التعلم إلى عبء. بالمقابل، حين يشعر الطفل أن له الحرية في أن يختار، أن ينظّم، أن يكتشف، فإن التعلم يتحول إلى تجربة وجودية ممتعة. هذا التحول هو ما يجعل من التعلم الذاتي أداة فعالة في بناء الشخصية المعرفية للطفل.
كيف ندعم التعلم الذاتي لدى الأطفال؟
لتمكين الأطفال من الاستفادة الحقيقية من التعلم الذاتي، يجب أن نمنحهم:
-
مساحة خاصة للتعلم: ليست فاخرة بالضرورة، لكنها تعكس خصوصيتهم وتمنحهم شعور الملكية.
-
حرية اختيار بعض الأدوات والموضوعات: ليشعروا بأنهم شركاء في صناعة تجربة التعلم.
-
تشجيع لا رقابة صارمة: لأن الضغط يفقد العملية معناها، بينما التشجيع يعزز الرغبة.
-
بيئة غنية بالمواد البصرية والقصصية والألوان: لأن التعلم في الطفولة لا ينفصل عن اللعب.
المستقبل يبدأ بالشغف
في عالم سريع التغير، يصبح الطفل الذي يتعلم بشغف، ويبحث من تلقاء نفسه، ويتعامل مع المعرفة كعالم خاص، أكثر قدرة على التكيف والمنافسة والابتكار. إن الاستثمار في التعلم الذاتي في مراحل الطفولة الأولى ليس رفاهية، بل هو ضرورة حقيقية لتكوين جيل لا ينتظر من يدفعه للتعلم، بل يسير إليه بحماس.